فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي ضاقت.
وقال لَبِيد:
أسهلْت وانتصبت كجِذْعِ مُنِيفةٍ ** جَرْداءَ يَحْصُر دونها جُرّامُها

أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم.
والحَصِر الكَتُوم للسِّر؛ قال جرير:
ولقد تَسَقَّطني الوُشاة فصادفوا ** حَصِرًا بِسِّرِك يا أُميْم ضَنِينا

ومعنى {حَصِرت} قد حصِرت فأُضمِرَت قد؛ قاله الفراء: وهو حال من المضمر المرفوع في {جاءوكم} كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي قد ذهب عقله.
وقيل: هو خبر بعد خبر قاله الزجاج.
أي جاءوكم ثم أخبر فقال: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فعلى هذا يكون {حَصِرَتْ} بدلًا من {جَاءُوكُمْ} وقيل: {حَصِرَتْ} في موضع خفض على النعت لقوم.
وفي حرف أُبَيّ {إلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ليس فيه {أَوْ جَاءُوكُمْ}.
وقيل: تقديره أو جاءوكم رجالًا أو قومًا حصِرت صدورهم؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال.
وقرأ الحسن {أو جاءوكم حَصِرةً صدورهم} نصب على الحال، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر.
وحكى {أو جاءوكم حصِراتٍ صدورهم}، ويجوز الرفع.
وقال محمد بن يزيد: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} هو دعاء عليهم؛ كما تقول: لعن الله الكافر؛ وقاله المبرد.
وضعّفه بعض المفسرين وقال: هذا يقتضي ألاّ يقاتلوا قومهم؛ وذلك فاسد؛ لأنهم كفار وقومهم كفار.
وأجيب بأن معناه صحيح؛ فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزًا لهم، وفي حق قومهم تحقيرًا لهم.
وقيل: {أَوْ} بمعنى الواو؛ كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين.
ويحتمل أن يكونوا معاهَدين على ذلك فهو نوع من العهد، أو قالوا نسلم ولا نقاتل؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام. والأول أظهر. والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم} الخ: أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقْبَلُوا منهم ذلك.
وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفًا لهم، ولمن دخل في عهدهم، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجبًا على كلّ من يدخل في الإسلام، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها.
وقرأ الجمهور {حَصِرَت} بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل وقرأه يعقوب {حَصِرةً} بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبةٌ منونّة.
و{حصرت} بمعنى ضاقت وحرجت.
و{أن يقاتلوكم} مجرور بحذف عن، أي ضاقت عن قتالكم، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد، فعظم عليهم قتالهم.
وقد دلّ قوله: {حصرت صدورهم} على أنّ ذلك عن صدق منهم. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن الذين استثناهم الله تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين؟
فقال الجمهور: هم من الكفار، والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر الا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فإنه لا يجوز قتلهم، وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فإنه يجوز قتله، وقال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، الا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة، والمقصود منه أن الله تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين، والمعنى: أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن الله قذف الرعب في قلوبهم، ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم.
قال أصحابنا: وهذا يدل على أنه لا يقبح من الله تعالى تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه، وأما المعتزلة فقد أجابوا عنه من وجهين: الأول: قال الجبائي قد بينا أن القوم الذين استثناهم الله تعالى قوم مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا فمعنى الآية: ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم أن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم.
والثاني: قال الكلبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل، وهذا لا يفيد إلا أنه تعالى قادر على الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يُقدرهم على ذلك ويقوّيهم إمّا عقوبةً ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارًا كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وإما تمحيصًا للذنوب كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ} [آل عمران: 141].
ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم؟ ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين، فذلك معنى التسليط انتهى.
وهذا على طريقته الاعتزالية.
وهذا الذي قاله الزمخشري قاله أبو هاشم قبله.
قال: أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل، وتسليط الله المشركين على المؤمنين ليس بأمر منه، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم، وتقوية أسباب الجرأة عليهم.
والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة: أحدها: تأديبًا لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب.
الثاني: ابتلاء لصبرهم واختبارًا لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال: {ولنبلونكم} الآية.
الثالث: لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم.
أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى.
وأمّا غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي: قد بينا أن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا معنى الآية.
ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم.
وقال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل، وهذا لا يفيد، إلا أنه قادر على الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده، انتهى كلامه.
وقال أهل السنة: في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منه تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه. اهـ.

.قال الفخر:

{فَإِنِ اعتزلوكم} أي فإن لم يتعرضوا لكم وألقوا إليكم السلم، أي الانقياد والاستسلام، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} في سورة براءة (91). اهـ.

.قال الفخر:

واختلف المفسرون فقال بعضهم: الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله: {اقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وقال قوم: إنها غير منسوخة، أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم، وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم: إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الخازن في الآية:

قال رحمه الله:
{إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} هذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ومعنى يصلون ينتسبون إليهم أو ينتمون إليهم أو يدخلون معهم بالحلف والجوار.
وقال ابن عباس يريد يلجؤون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي عهد وهم الأسلميون وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعينه عليه ومن أصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال.
وفي رواية عن ابن عباس قال: أراد بالقوم الذي بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن مناة كانوا في الصلح والهدنة.
وقيل هم خزاعة والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلًا في عهدكم فهم أيضًا داخلون في عهدكم {أو جاؤوكم حصرت صدورهم} يحتمل أن يكون عطفًا على الذين وتقديره إلاّ الذين يتصلون بالمعاهدين أو يتصلون بالذين حصرت صدورهم فلا تقتلوهم وقيل يحتمل أن يكون عطفًا على صفة تقديره إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا تقتلوهم ومعنى حصرت أي ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم وهم بنو مدلج وكانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشًا أن لا يقاتلوهم {أن يقاتلوكم} يعني ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم {أو يقاتلوا قومهم} يعني من آمن منهم وقيل معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم فقد ضاقت صدورهم لذلك عن قتالكم والقتال معكم وهو قوم هلال الأسلميون وبنو بكر نهى الله عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد المسلمين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم وذلك أن الله تعالى أوجب قتال الكفار إلاّ من كان معاهدًا أو لجأ إلى معاهدة أو ترك القتال لأنه لا يجوز قتل هؤلاء وعلى هذا القول فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فقتاله جائز وقال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم في هذه الآية منسوخة بآية السيف وذلك لأن الله تعالى لما أعز الإسلام وأهله أمر أن لا يقبل من مشركي العرب إلاّ الإسلام أو القتل {ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} يذكر الله تعالى منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين وذلك لما ألقى الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن قتالكم ومعنى التسليط هنا تقوية قلوبهم على قتال المسلمين ولكن قذف الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن المسلمين {فإن اعتزلوكم} يعني فإن اعتزلوكم عن قتالكم {فلم يقاتلوكم}: ويقال فلم يقاتلوكم يوم فتح مكة مع قومهم {وألقوا إليكم السلم} يعني الانقياد والصلح فانقادوا واستسلموا {فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا} يعني بالقتل والقتال قال بعض المفسرين هذا منسوخ بآية القتال وهي قوله تعالى: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنا إذا حملناها على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة. اهـ.